مع اقتراب عام 1996م من نهايته، كان عمالقة العصر الصناعي لا يزالون هم أكثر الشركات قيمة في العالم مثل شركة "جنرال إلكتريك" و"رويال داتش شل" و"كوكا كولا" و"إكسون موبيل" وشركة اتصالات يابانية تُدعى "نيبون تلغراف آند تليفون"، وبعد مرور عقدين من الزمان، لم تعد أي من هذه الشركات في المراكز الخمسة الأولى، إذ حلّت مكانها شركات أخرى يغلب عليها الطابع التقني مثل "Apple"، "Google"، Microsoft" و"Facebook"، فأصبح الاقتصاد العالمي تحت سيطرة شركات التكنولوجيا العملاقة، إذ يوجد أكثر من 150 شركة تقنية في وادي السيليكون تقدر قيمة إحداها بما يُقارب 3.5 تريليون دولار.
نمت العديد من شركات التكنولوجيا من شركات ناشئة متعثرة إلى شركات عملاقة في بضع سنوات فقط، ويكمن سر النمو الهائل في كلمة واحدة تُعرف بـ "Blitzscaling".
عبر السطور التالية نستعرض أبرز مكونات هذا المفهوم والتي تم ذكرها عبر كتاب يحمل اسم "Blitzscaling: The Lightning-Fast Path to Building Massively Valuable Companies" والذي تمّ تأليفه من قبل الكاتبين والمستثمرين الأمريكيين " كريس ييه" و " ريد هوفمان".
ماذا تعني كلمة"Blitzscaling" ؟
بشكل موجز هي استراتيجية استخدمتها بعض الشركات الأكثر قيمة اليوم، لتحقيق حصص سوقية ضخمة ونمو سريع، والحصول على هوامش ربح كبيرة حتى تصبح شركات
عملاقة في وقت قصير جدًا.
وبالرجوع الى المعنى الحرفي للحملة فإنّ "Blitz" تعني في الألمانية البرق، وفي الانجليزية أصبح وصفًا غير رسميًا يُعبّر عن وصف ما يحدث عندما تحاول المنظمة تحقيق شيء
ما بسرعة البرق، و"Scaling" تعني التوسع في العمل، وتفسير هذا الأمر يعني تنمية شركة بطريقة تجعل جميع أجزائها متناسبة مع بعضها البعض أثناء تطورها، وهي نقطة جوهرية، فحتى تقوم إحدى الشركات ببيع المزيد من المنتجات أو الخدمات، تحتاج إلى توسيع بنيتها التحتية ومواردها والقوى العاملة لديها، وأنّ يصبح كل ذلك متوائما حتى يكون النمو مستدامًا.
وعلى سبيل المثال، إذا كنت تمتلك كشكًا لبيع عصير الليمون وتريد التوسع، ستحتاج إلى الاستثمار في أكشاك إضافية وليمون وأكواب وعمال وأجهزة، فإذا حاولت التوسع في إحدى تلك الجوانب فقط، فلن يكون التوسع مستدامًا، فإذا نفدت الأكواب، لن يهم عدد الليمون الذي يمكنك عصره، وهذا ما تعنيه فكرة "Bitzscaling"، إذ لا ينبغي أنّ يكون نمو الأعمال التجارية سريعًا وحسب، بل ومتناسبًا أيضًا، وهذا ما حدث أيضًا عندما تحولت أمازون من 151 موظفًا وعائدات 5.1 مليون دولار في عام 1996م إلى 7600 موظف و 1.64 مليار دولار في الإيرادات في 1999م، أي زيادة مقدارها 50 ضعفًا في الموظفين وزيادة 322 ضعفًا في الإيرادات، كل ذلك في ثلاث سنوات فقط !
استراتيجية محفوفة بالمخاطر وعدم اليقين
وبالعودة الى المعنى الحرفي، فإن كلمة "Blitz" لها تاريخ مؤسف يعود إلى استراتيجية عسكرية نفذها الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الثانية باسم "الحرب الخاطفة"، وهي استراتيجية مبنية على التقدم بسرعة لاجتياح العدو، وتنطوي على مخاطر كبيرة، فقد ينفذ الجيش المهاجم من الإمدادات وقد يلقى الكثيرون حتفهم، إلا أنّ المكافأة المحتملة من
التغلب على العدو غالبًا ما تفوق هذه المخاطر، ولتطبيقها في عالم الأعمال، ستسعى الشركة التقليدية لتأمين موقعها في ساحة المعركة التجارية (السوق) قبل التقدم لتوسيع أراضيها (حصتها في السوق)، ومثالٌ حي على ذلك، قيام شركة Airbnb، بإنشاء تسعة مكاتب بشكل مباشر وسريع خلال عامين 2011- 2012م، فلم تتجه الى النهج التقليدي، حيث كان لديها منافس ألماني يدعى "Wimdu" وكانت رؤية الشركة أنّها لو تحركت ببطء حتى ينمو مكتب تلو الأخرى، فذلك الأمر سيتيح للمنافس التقدم بسرعة.
لذا تتلخص استراتيجية " Bitzscaling" في التوسع بقوة، وبأنّ تُعطى السرعة أولوية على الكفاءة، ما يسمح للشركة بالهيمنة على الأسواق الجديدة بسرعة واكتساب ميزة المتقدم
الأول "first scaler advantage"، لذا، تذهب ميزة المتقدم الأول للشركة التي تُعتبر الأولى في التوسع والسيطرة في مجالها.
تقنيات رئيسية في "Blitzscaling"
- ابتكار نموذج الأعمال: كيفية جني الشركة المال
لا يتعلق الأمر باستخدام التكنولوجيا فقط، بل ويجب معرفة كيفية مساهمة تلك التكنولوجيا في تطوير طرق جديدة لكسب المال.
- ابتكار الإستراتيجية: البحث عن طرق جديدة للنمو
كالجمع بين التكنولوجيا الجديدة والتوزيع الفعال، ونموذج الإيرادات القابل للتطوير وذو هامش الربح المرتفع، وإستراتيجية التمويل.
- الابتكار الإداري: توسيع نطاق المنظمة
إذ كما ذكر المؤلفين، تمر الشركات بخمسة مراحل من حيث الحجم:
- الشركة على النطاق الأسري والتي تحتوي على عدد 1-9 موظفين
- على نطاق القبيلة، 10 موظفين
- على نطاق القرية، مئات من العاملين
- على مستوى المدينة، آلاف الموظفين
- على مستوى الدولة، 10 آلاف موظف فأكثر
ويجب أن يتغير نهج الإدارة في كل مرحلة من هذه المراحل، فما كان يعمل في المرحلة الماضية، سوف يُسبب الفوضى في المرحلة التالية.
وذكر كلا المؤلفين أنّه من بين الأساليب الأساسية الثلاثة المذكورة أعلاه، فإنّ أولها وأكثرها أهمية هو تصميم نموذج أعمال مبتكر قادر على النمو المتسارع، إذ انّ ما يميز تلك الشركات التقنية الناجحة، هو أنهم كانوا قادرين باستمرار على تصميم وتنفيذ نماذج أعمال بخصائص تسمح لهم بتحقيق نمو هائل على نطاق واسع والحصول على الميزة التنافسية المستدامة، وتشترك معظم نماذج الأعمال هذه في خصائص معينة تتمثل في وجود فكرة جيدة مبنية على زيادة عوامل النمو الرئيسية الأربعة والتقليل من محددات النمو.
اقرا ايضا : قواعد غير مألوفة لروّاد الأعمال من كتابBlitzscaling
أربعة عوامل للنمو
- تأثيرات الشبكة
تأثيرات الشبكة تنطبق عندما يجعل المستخدم المنتج الذي بين يديه أكثر قيمة بالنسبة للمستخدمين الآخرين، فعلى سبيل المثال الفاكس، أداة تكون جيدة إذا كان الأشخاص
الذين تريد إرسال الفاكسات لديهم الجهاز ذاته أيضًا، إذ تولد تأثيرات الشبكة ردود فعل إيجابية، فالمزيد من المستخدمين يجعلون المنتج أكثر قيمة، وهو ما يجذب المزيد من المستخدمين أيضًا، وعلى العكس من ذلك، فإن الشبكة التي تحتوي على عدد أقل من المستخدمين نسبيًا تكون غير مجدية مقارنة بالبدائل.
وهناك أنواع من تأثيرات الشبكة، مثل:
- تأثيرات الشبكة غير المباشر: وهو الذي يتم من خلاله تشجيع الاستخدام على استهلاك السلع التكميلية ما يزيد من قيمة المنتج الأصلي، كأن تدعو أنظمة التشغيل الأساسية
- للهواتف والحواسيب المطورين إلى إنشاء تطبيقات على نظامها، مثل نظام الويندوز، و الأندرويد و iOS، كذلك وحدات تحكم الألعاب مثل البلاي ستيشن.
- تأثيرات الشبكة الثنائية: يؤدي الاستخدام من قبل مجموعة واحدة من المستخدمين إلى زيادة القيمة لمجموعة مختلفة من المستخدمين، مثل خدمات أوبر للتوصيل،
- وَ "Airbnb" للتأجير.
- تأثيرات الشبكة المحلية: يؤدي الاستخدام من قبل مجموعة فرعية صغيرة من المستخدمين إلى زيادة قيمة المستخدم الأول، مثل بعض عروض الاتصالات كالحصول على
- عرض مكالمات هاتفية غير محدودة للفئة المفضلة.
- التوافق والمعايير: استخدام منتج واحد يشجع على استخدام المنتجات المتوافقة له، مثل لجوء المستخدمين لاستخدام برنامج "MS word" بعد أن اعتادوا لسنوات على
- استخدام "Wordperfect"، وذلك لتوافقهم في الخصائص.
- حجم السوق
من المعروف أنّ السوق الكبير يحتوي على عدد كبير من العملاء المحتملين و يتطلب قنوات فعالة للوصول إلى هؤلاء العملاء، إذ أن السوق ينمو بسرعة أيضًا، وفي بعض الأحيان
على العكس تصبح الأسواق الصغيرة أكثر جاذبية وملائمة للنمو، ولهذا السبب يتم تقليص حجم السوق لبعض الشركات الناشئة، لأنه يتم التقليل من قدرة الشركة على تنمية السوق وإمكانية توسعها، لذا ينبغي على الشركات الناشئة تحديد المكانة التي تنوي الوصول إليها وتعريف السوق الذي تستهدفه ومدى حجمه، حتى لايصبح عائقًا لها عن النمو.
- التوزيع
يجب أن تتناسب قنوات التوزيع التي تختارها لنشر منتجك مع سرعة توسعك، ويمكنك اختيار قناة توزيع تراهن عليها أو الانتشار بفضل الحديث الشفوي وتحفيز المستخدمين
على نقل السمعة الطيبة، كما فعلت "باي بال" بمكافأة تسجيل قيمتها 10 دولارات لمن يقوم بذلك!
- هوامش إجمالية عالية
كلما زادت الأموال التي تجنيها لكل عنصر يتم بيعه، كان ذلك أفضل، إذ تُعد المبيعات من أصعب أجزاء التوسع، فكلما زاد المال المتبقي بعد كل معاملة، زادت قدرتك على اعادة الاستثمار. وهوامش الربح الإجمالية العالية لا تمنحك المال وحسب، بل وتُسهل عليك تمويل التوسع، فكلما ارتفعت، كلما لاحظ المستثمرون ذلك.
معوقات النمو
تتلخص معوقات النمو للأعمال التجارية المتسارعة النمو في نوعين من محددات النمو فقط وهما "التوافق بين المنتج والسوق، وقابلية التوسع التشغيلي".
نظرًا لأنه من الصعب تخمين ما يريده المستخدمون بالضبط، فهناك احتمالية كبيرة بأن يضطر التاجر إلى تعديل المنتج أو الخدمة بعد إصداره، وهذا بسبب عدم وجود التوافق بين المنتج والسوق، لذا، تغيّرت العديد من الشركات الشهيرة عدة مرات قبل أن تجد في النهاية ما سمح لها بالنجاح، إذ غيّرت "باي بال" استراتيجيتها الأساسية أربع مرات، وانتقل تطبيق "الانستغرام"من تطبيق الشبكات المحلية إلى مشاركة الصور، وانتقلت منصة" Medium " من منصة اعلانية إلى منصة للاشتراك في المحتوى والمقالات، وهذا الأمر ليس سيئًا، بل ضروري ويجب أن يكون المؤسسين على استعداد للقيام بذلك.
تخيل الآن أنك حققت منتجًا مثاليًا مناسبًا للسوق وتمكنت من توليد طلب مرتفع، لكنك لا تمتلك إمكانيات الإنتاج الضخمة لتلبية هذا الطلب، حينها بلا شك ستخسر المبيعات المحتملة، ما يعني أنه ينبغي عليك توسيع نطاق عملياتك للوصول إلى المستوى الضروري من الإنتاج الضخم، وهذا ما يعرف بقابلية التوسع التشغيلي، ويعتمد هذا الأمر في الغالب
على مقدار البنية التحتية والموظفين والموارد التي تحتاجها لتقديم منتجك إلى المزيد من الأشخاص، وبالنسبة لشركات التكنولوجيا، غالبًا ما تكون هذه مشكلة أقل حدوثًا من الشركات المصنعة للسلع المادية، فإذا لم تتمكن الأخيرة من العثور على ما يكفي من الموردين أو العمال أو المواد الخام، فيُمكن أن يُساهم ذلك في تدميرها أو الحدّ من نموها.
أنماط نماذج العمل:
1- البتات بدلًا من الذرات
يُعدّ كلًا من جوجل وفيسبوك مثالًا رائعًا على ذلك، وهذا النمط يشير الى التوجه لبيع منتجات أو خدمات رقمية، فالشركات القائمة على البتات لها تكاليف متغيرة أقل وهوامش إجمالية عالية، ويسهل فيها تصميم نموذج الأعمال الذي يُقلل من محددات النمو.
2- المنصات
قوة المنصات الإلكترونية في أنّها تعمل على تحقيق التوزيع العالمي في مدة قصيرة، فإذا كنت تبيع منتجًا أو خدمة رقمية، فلابد من معرفة المنصة المناسبة لإدارة عملك، ومثالًا على تلك المنصات منصة أمازون، والايتونز، ومتجر جوجل، وكذلك متاجر بعض شبكات التواصل الاجتماعية، كذلك ويُمكنك كرائد أعمال تحديد منصة خاصة لشراء وبيع منتجاتك/ خدماتك.
3- البضائع الرقمية
السلع الرقمية ليس لها قيمة حرفية، ولكن لها قيمة عاطفية لمستخدميها، وتميل إلى أن يكون لديها هوامش إجمالية تقارب 100٪، لذا إذا كنت تمتلك شركة لبيع إحدى المنتجات الملموسة فلا يمكنك أن تحولها بشكل سحري إلى منتجات رقمية، ولكن بوسعك أن تستفيد من قوة التحول إلى منتجات رقمية، بحيث يُمكن شراؤها من الإنترنت.
4- المجانية
المنتجات المجانية ستنتهي دائمًا بجلب المستخدمين، وسوف يقوم المهتمون دائمًا بالترقية إلى إصدار مدفوع إذا كانوا سعداء بالمنتج.
5- الأسواق
بدون شك انّ الأسواق الكبيرة تُحقق سيولة أفضل، مما يزيد من عدد المعاملات الناجحة ويخلق المزيد من القيمة، وقديمًا كانت الأسواق المحلية الفعلية هي التي تُبنى عليها نماذج الأعمال، إلا انّ الانترنت أصبح السوق الحالي الذي لا يجمع وحسب بين البائع والمشتري، بل ويسمح بتحديد الأسعار من خلال قوى السوق المتمثلة في العرض والطلب وهو ما سمح لبعض الشركات بالظهور مثل "eBay" و"Airbnb".
6- الاشتراكات
تتيح الاشتراكات توزيعًا رائعًا دون بذل أي جهد، ولهذا السبب أصبحت البرمجيات كخدمة ( SaaS ) هي النموذج المهيمن لبث برامج الترفيه والمشاريع.
7- الموجز وقوة جذب الانتباه
استطاعت منصات التواصل الاجتماعية كالفيسبوك وتويتر من جذب انتباه الكثيرين وذلك لوجود خاصية الإيجاز في مشاركات الأشخاص المتواجدة عبر التايم لاين، لذا كرائد اعمال، ينبغي ان تكون على دراية بما يحبه المستخدمون وما يكرهونه من أجل تحسين المشاركات والمعلومات المقدمة لهم، ولاستهداف إعلانات أكثر إقناعًا.
متى تبدأ في تجربة الـ "Blitzscaling"؟ ومتى تتوقف؟
لا يجب أن تبدأ إذا لم تكن منتجاتك أو خدماتك متناسبة مع السوق، أو إذا كان نموذج عملك لا يؤدي إلى نتائج جيدة، أو إذا كانت ظروف السوق غير مناسبة، كذلك إذا كان تحمل التكلفة والمخاطرة والسرعة لا يمنح ميزة من الأساس، ففي هذه الحالات، من الأفضل اتباع قواعد العمل التقليدية وانتظار الوقت لتطبيق هذه الاستراتيجية.
وفي حال قمت بتطبيق استراتيجية الـ "Blitzscale"، هناك أيضًا بعض المؤشرات أو علامات الإنذار المبكر، التي قد تظهر لك وتشير بضرورة التوقف أو عدم البدء، وهي:
- انخفاض معدل النمو (بالنسبة للسوق والمنافسة)
- تدهور اقتصاديات الوحدة
- انخفاض الإنتاجية لكل موظف
- زيادة النفقات الإدارية